نحن و الغبار

إن ما نمر به من أحداث و ما نعرف من أشخاص و ما نصادف من أشياء حقيقة كانت أو أحلام ما هي إلا خيوط تغزل شخصياتنا و ما ظهر و ما لم يظهر من صورنا. لقد كنت أجلس اليوم مع طفل يرسم وجها، و عندما فرغ من رسمه، أحاط الوجه بدوائر كثيرة، و عندما سألته عن السبب قال ضاحكا: إن له وجوه كثيرة

إن الوجه كما قال وجوها كثيرة، و لكننا لسنا مرآة لما حولنا و لا شيئا يشبهها، إنما الوصف الأقرب هو أننا نسيج من الكل المحيط بنا و الكل الذي بداخلنا و لحظات من التوحد أو الانسلال التي تحدث تبعا للمقاييس المكانية و الزمنية. فهل تتغير المقاييس المكانية مثلما تتغير الأحداث معنا؟

هناك من يشكو رتابة الأحداث، و هناك من يشكو عدم استقرارها، و هناك من يشكو رتابة المكان، و هناك من يغير كل يوم مكان معيشته، و هناك أيضا من يصر على وجوب الرتابة في الأحداث و الأماكن

الغبار هو أحد أمثلة نظرية الوجوه الكثيرة التي قال عنها ذلك الطفل، فالغبار يمر على مدينة، فتختفي أشياء و تظهر أشياء، و يضيع الأفق لانعدام الدليل البصري على وجوده، فنرى الدنيا بطريقة مختلفة، نراها تصبح شخصا آخر، لا نستطيع القول أنها تجردت، لأنها بلا حقيقة ثابتة من الأساس، فمن يستطيع القول أن الجو الصافي الذي تصبح فيه السماء زرقاء هو الطقس الطبيعي، أو الطقس المنطقي لهذا الوقت؟ و لكن نستطيع القول أنها كشفت عن حقيقة أخرى، مكان آخر، و زمن آخر

فكيف يؤثر ذلك على تفكيرنا و ترتيبه و تتابعه؟ و كيف يؤثر على قراراتنا و أفعالنا؟ و كيف تلعب تلك التأثيرات بأبصارنا فترتبط بأصل العلم بالشيء و تكوينه و تركيبه الذي قد يرتبط بتركيبنا اللغوي للجمل، فنجعل في لغتنا الفعل في البداية، و عند شعب آخر يكون الفعل في الوسط، و شعب ينهي الجملة بالفعل؟

و تتبدل الطقوس و الأجواء و تتغير و يمر على الناس كل يوم أشياء و ناس و صور و أصوات و تعابير و تقاسيم، و لازال الناس يؤمنون بالحقيقة الوحيدة.. ألا يعني ذلك أننا نحن من يوحّد الحقيقة و نحن من نتحكم بماهيتها؟