-العربية

بداية أكتوبر



بداية القصة مكان مطلق و نهايتها زمان مطلق، نتغير سلوكيًا مع المكان و بيولوجيًا مع الزمان، نولد لأنه الوقت الطبيعي للولادة، و نبدأ بالمشي لأنه الوقت الطبيعي للمشي. و المكان يفضي إلينا بكيفيات التصرف. فمتى يكون الاختيار؟ و هل دافعه وهم؟ حدس؟ خيال؟ معيار سليم بالنسبة لنا، أم هي الرغبة الصرفة؟

اختيارات الإنسان في الحياة هي التي تغير المجتمع و عندما يرغب الإنسان بالتجرد من نمط سائد فإنه يصبح طوع لذته، أينما وجد اللذة في شيء ذهب مذهبه، أو قاومه أشد مقاومة. فاللذة هي المادة الأساسية للانتخاب الأخلاقي، لكن الكثير يطلبها كما الغاية أو يتعوذ منها كإبليس، لأن اللذة مؤلمة، ترى بها نفسك الحقيرة بكامل صراحتها، كالوقوع في الحب، كالولادة بلا مخدر، كالعري في مكان عام، كالخيبة التامة بلا مسكر. لكنها حتمًا ليست حقيقة تامة

اللذة هي محطة انتقال الأبعاد، الأبعاد التي هي أصل الأخلاق، و عندما تختار فإنك تحمل قلبك بقدر ما يحتمل العضل لذلك الشعور  بين النشوة و الألم، بين بعد و آخر، و الذي تتذبذب و ترتجف به قيمة كل شيء. ربما هنا تكمن العلاقة بين آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، و بين حي بن يقظان الذي علمه الحيوان السلوك كله، لا أدري.

  المواجهة، المباشرة، أو المناظرة  بين شخصين هي من تجارب اللذة الصعبة، حيث لا تدري إن كان الآخر ما تواجه أم نفسك، هل هو الآخر ما تواجه أم صورة رسمتها عنه؟ إنك لن تجد جوابًا لهذه الأسئلة، لكنك تدرك قيمتها  و جدواها حال خوضها،   بعض العلاقات تسمو بك إلى نفسك، و بعضها للآخر، و منها ما تسمو بك لأبعاد أخرى، و احتمالات و أحلام

نحب تشخيص العلاقات بكل ما أوتينا من الاستعارات المكنية، و تظل الاستعارات تتحول على مر الزمن، أو ربما تنفد، أما العلاقة المطلقة فليس لها تفسير لغوي أو فعلي، ليس لها أعصاب زمانية أو مكانية، هي توجه كامل لا يحتمل الشك، لا أفهم ذلك.

تأملات ما قبل الصلاة

الحب فضاء به تسطع نجوم الهداية، إلا أنه يتمثل أحيانا كما الآلهة بصورتنا الإنسية، ربما هي الرغبة الزائلة في البقاء المكاني، و لأنها زائلة فهي إذن طارئة و عنيفة. و هو بهذا التمثل يكوّن هالة عالمية خاصة بموجودات هذا الحب، مثلما تعرفنا شيرين على هالة حبها فتسمي القلة قلة حبنا، و الصرصار صرصار حبنا

و في هذا العالم الخاص يولد دين الأبعاد الجديد و هو دين يشبه جمل باخ الموسيقية؛ لا يمكن أن يعيد نفسه، لكنه أبدًا في انسجام. و تعمل هذه الأبعاد عمل الأعصاب في شحمة العين؛ تجعلنا نرغب بالرؤية، و نرغب بما نراه أيضًا

ماذا ترتكب الحياة من خلالنا؟ مجموعة من الكائنات تتصل فيما بينها بحرب و حب، حشود من التصانيف التشاركية، صفوف من المصلين و منصات عليها الراقصون، و ليس في الوقت متسع للتفكير. يعتقد الناس أن الأمم السابقة فكرت كثيرًا، فكرت بما يكفي، و أننا الآن يجب أن نتحرك بلا تفكير. و كأن الماضي أو ما وصلنا منه هو عقل الإنسان الكلي

نحن لنا العجلة، و للمستقبل الألوهية، و أَلِهَ في لسان العرب تأتي بمعنى الحيرة، و النجوم تهدينا إن كنا في ضلال، لكن التلوث الضوئي في المدينة يمنعنا عن سبيل الهداية، الآن عواميد الإنارة تهدينا ، فكيف نحتار إلى عمود النور؟

إن الحب يجعلك تلمس الأبعاد و تتنفس الأماكن، يجعلك ناقص إلى كل الحواس فيصبح الجسد خط رحلة لبادية الشعور. لكن لا أرى في الحب كما يقولون ارتباطًا أبديًا، بل بالعكس أراه فضاء لغاية لا تنتهي، و مرآة لما الذي فيك يفكر

اجلس الآن بجانبي لنقرأ

دائرة


تأخذك الأيام على محمل الجد أحيانًا، تسمعك، تحاورك، تساومك، و لكنها تلعب بك حال تؤمن بدورانها.  مسكين من أضاف إلى الدورة الحياة، فهو يلحظ تتابع الإشارات و الأمارات، و يصل نقطًا في خياله منثورة، يظنه يلعب معها لكن هيهات

تدور الحياة، و على الظالم تدور الدوائر، كنت أتمنى دائمًا الحياة للأشرار، أتمناها لهم حتى تهرم الحياة أو يهرمون، لكن برغم الدورة، برغم الدائرة، يدور في البال ما ليس في حسبان البشر. يحملون رؤوسهم بين أكتافهم و يذهبون من مكان لآخر، باحثين عن سبب هذا الرأس المليء بالأسئلة

إن الأشياء التي نصنعها هي جزء منا، أقصد نحتاج أن نصنع جزءا منا مفصول عنا كي نكون عصريين. فنحن نأكل بالملعقة لا بأيدينا، ، نصنع جسمًا نسكن فيه، و نستخدم السيارة للحركة، نحن إذًا لا نتكاثر فقط بالولادة، نتكاثر بالأشياء التي نفصلها من أعضائنا

في الآونة الأخيرة أصبحت بصيرة بالحدود، فأنت لا تشعر بها إلا عندما تهزها أو تهزك، الحدود تشبه الجزيرة ، الخضراء، مجموعة من المباني لا تفرض معناها أو وظيفتها على الزائرين، كل شخص يلونها بطبعه، و كل طفل يسميها حسب قوانين لعبته

فرادى


 في وصف الألم نستطيع أن نتكلم عن الحزن، الظلم، القمع، التعذيب، الفقد، و لكن من الصعب جدًا فضح الشعور  بالوحدة، فنعالجها أو نخضعها لتعابير عدة؛ غربة، عزلة، هجرة، منفى، سجن. في الغربة إثبات لوجود مجتمع متآلف، و  في العزلة اختيار ابتعاد عن المجتمع، الهجرة بحث لمجتمع آخر، المنفى ابتعاد قسري عن مجتمع معين، و السجن إجبار على المكوث في مكان مخصص بعيد عن الناس. هي كلها تعابير فيها الاختيار أمر واقع إما من الشخص  أو عليه. لكن الوحدة ، هل هي شعور أم صفة؟ هل هي سبب أم عَرَض؟

هل لها مدة؟ أم أنها ظهورٌ طارئ كصور الذاكرة في غمرة حديث شيق. للوحدة كما أتخيل حضور بارد و ما لها موقع يوجع، و لكنها تعمل تدريجيًا على انكماش الجسد. و للوحدة أعوان لغوية كالفردية و الاستقلال و الوحدانية و ربما النرجسية، كيف إذن هو الحوار بينها و بين هؤلاء الأعوان؟ و متى تخرج حالتها الرخوة من هذه الدروع الصلبة؟

نحن نأتي إلى هذه الأرض فرادى و ينسب إلينا اسم و أصل و فصل، نتعلم أن لنا تاريخ يسبب حاضرنا. و نحن نبعث من هذه الدنيا فرادى لكن نبعث مجردين من أهلينا، نبعث عارين من كل صلة، و كأن الصلة هي خطيئتنا الأولى و الأخيرة. نعيش الدنيا موسومين برذيلة التعارف و التواصل، إلى أن ننتهي إلى يقين هذه الوحدة

 إن الوحدة هي أضعف حالات الأنا، و تنبض كالإشارة بقرب الأجل، فهي هاجس مشين نابع بالخير ، تلازمنا فننتفض بفعل شيء جيد لمن هم حولنا. قد لا نشعر بمولد هذه الطاقة، و قد لا ندري سببًا لأفعالنا. قد نسميه أخلاق أو دين أو حب، لكنها محض مادة رخوة في صميم الأنانية تدعى الوحدة


سنة جديدة

و تبدأ هذه السنة صفحة بيضاء بعد سنين من الصفحات مسودة بالأسئلة، و لأن الأسئلة تتكاثر فلها إذن أصل و نسل و أنساب. عامي الماضي كان منتشرًا بشكل مرعب، و كأني أرسم وردة السجادة، أو العقدة التي تنتشر منها النقوش، ثم انسلت الأيام لخيوط واضحة، لم تكن لتولد مالم أمر بشرايين السنة الماضية، و ما لم أتنفس مشاعري، فالإنسان لا يواجه نفسه أمام المرآة، أو أي انعكاس عبر سطح مصقول، و لكن المواجهة النفسية أدق بكثير مما توقعت. عندما ترى خيط منك في سالفة يرويها إنسان، و تكرر في ذاكرتك جملة لحنية أو أسطورة الكل مقتنع بأسطوريتها

و تتكرر في الذاكرة الحوادث و تتردد و تتباين مظاهر التقديس و التحقير ثم نبدأ نسمي الأشياء بأسمائها، بعدها ندخل في هالة من الحيرة ، لماذا صيرنا الله راغبين؟ و لماذا أعد الله الجنة للمتقين؟ بعد سنوات من التعلم و البحث و التجربة و التساؤل تظن أنك وصلت المستوى المناسب لتختار حياتك، لتختار أصدقاؤك و محيطك و كلماتك التي تعبر عن مشاعرك. و لكن تجد حياتك تتغير بسبب خارج عن إرادتك، و أفعالك تكون لسبب أبعد من وجودك الحالي

تقابل شخص لا تعرفه إطلاقاً و لكن يهزك تأثير هذه المقابلة أكثر من مضمونها، و تكشف لك أبعد مما يستطيع البصر. و نظن أن العلاقة مرتبطة بشخوصها، و لكنها قد تكون جزء من مفهوم كوني أوسع. نعم، هي الحيرة كالجو الغائم، لشخص لا يعرف ماهية المطر و كالغبار لشخص لم يسمع عن ترحال الرمال

لقد ولد الفكر الحداثي سلاسل من العلاقات التفاضلية، فالزمن يعلمنا أن الأحداث تتتابع و تتعاقب، و لذلك نحتاج المقارنة و المفاضلة و الفقه و القياس، إنها النزعة الإنسانية لتأسيس منهج للحياة على هذه الأرض

نولد في هذه الدنيا من ذروة الارتباط بين المرأة و الرجل، يفرض علينا دراسة المنهج الذي انتهجه الآباء، لكننا نضيع بالتوازي ببحر من الحيرة، فالتجربة تنفي المنهج الذي تعلمناه أو تؤكده بشكل منفر أو مقزز. فلا نعلم إذا كانت حياتنا تكفي لصناعة منهج شخصي، و لا نعلم إذا كانت رغبتنا بأمر ما تحمل لنا الخير الذي نأمل. لذلك صعب علي التخطيط، لذلك أستسلم للحين، للآنية لما أستطيع الآن أن أفعل، و أسمي استنتاجاتي فترة وضوح، أو كون مؤقت

و نحن في هذا الكون، نستمد القوة من الخالق الذي تعجز حواسنا عن إدراكه، فنحن لا نستطيع أن نفهم إن كان كنهه كوني أو زمني أو كنه آخر نجهله، و لكن كل ما نحتاجه الآن هو القوة في فضاء غني بالحيرة، قوة تجعلنا نعمل، نصنع و نكون، و نتكاثر

---
اليوم و الغد في المرسم الحر هو آخر يومين للمعرض الذي أقيمه عن الرحلة من الكويت إلى مكة "مدد:رصد الحركة" فيه أستعرض مشاهدات الرحلة و تصورات عن المحيط المدرَك  و علاقة البيئة جغرافيًا بالتحولات و التغيرات الإنسانية

عن فقدان الرغبة في الوصل

عندما لا يعود الذكر تجديداً للمشاعر إنما هدماً لها. فعل النسيان لا يصدق إلا بعد انقضائه. يستحيل على النسيان أن يكون غاية، فمحاولة النسيان غير ممكنة لأن المحاولة تستوجب الوعي، و النسيان يستوجب الغفلة. إن البعض يحاول النسيان بشرب مسكر مثلاً، أي الاستعانة بما يذهب الوعي، و لكن ذلك يجلب الإعياء -حسب اعتقادي- و الذكر أفعل من النسيان في الرتق و الفتق. الفلك يدور و الفيلم يدور. و في الدوران وصل، و في الطواف وصل، لماذا أرغب في الوصل؟

يقولون نسق أفكارك في ذهنك قبل أن يصل لسانك، لكن طبيعتي أن أكون جزءًا من حوار، إن سكت الجميع للاستماع لن يفهمني أحد، لا بسبب استرسال منطقي ميكانيكي، و لكن حديثي متقطع غير موصول. بعد أن استطعت صياغة الجملة السابقة عرفت أن الوصل يحدث لا يُفتعل، و نحن نكرر حتى يحدث، و التكرار ليس تشابه، و الوصل افتلات لا ارتباط

في قلبي صارت تتكاثر العيون، و أتمشى فيني بعدما كنت يادوب أرسمني، و لكن كيف أستطيع رصد الحركة، و كل شيء يستمر في التحول، إذا صورت ما أرى فيلماً لن يعرف أحد ظني بماهية شيء بعيد في الصورة قبل اقترابها، و إن لم يعرف أحد أني كنت أظنه شيئاً آخر غير حقيقته المعروفة، قد لا يظن أحدٌ شيئاً حتى يقترب


إذاً ما علاقة الجمال بجملة الأمر؟ و لماذا يُنصح بالصبر الجميل؟ برأيي أجدى أن أوصي بالتنفس، و بعض التمرينات العضلية، كتركيب مكتبة من ايكيا، أو إعادة ترتيب الكتب، الجمال و الجملة. قلت لها ذاك اليوم أنني أخشى أن تكون قوة قلبي لسبب يدعوني لقياس حدود هذه  القوة، ماذا سيحدث يا ترى جراء قوة قلبي؟

أسئلتي ليست على هامش انتظار، هي نظر فحسب، و الناظر هو مسؤول المدرسة، ناظر على مدرسة فهو ينظرها. فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور

عن فقدان مَلَكة الوصل

 أثناء الغيبوبة يكون الحلم أوقع، و بعد الصحو لا ندري لماذا، لا ندري لماذا و حسب. عندما نظن أننا نمشي في أرض غريبة على هدي نجم أليف نعي على سجادة تعصرنا بطياتها كلما اشتغلنا بها أكثر. تقول أحسن الظن. أقول متى أحسنته و حسُن الحال؟ أثناء الغيبوبة سؤال واحد يطول، يطول حتى فلت من دهاء الغيب. سؤال عن الحين

أيجوز يا شيخ التوضؤ بالأسئلة؟ هل يجوز يا شيخ؟ هل تعرفني يا شيخ؟

أتكرر كفقرات نص محفوظ في جوف السجادة. العالم يسعى للحرية، و العالم يسعى للهداية، إن الأمر صعب، لكن يقولون آمِن فآمنت. مايزال سعينا أجمعين دائر في أطوار الخيبة. جمهور المعاني يعاني، ما هي العلاقة بين الهداية و الحرية؛ الأولى ملك التجربة و الثانية ملك النفس؟ ربما

لقد فقدت ملكة الوصل، و كأن بين كل كلمة و ما يليها ساتر، فرقت ملابس كثيرة، و اشتريت أخرى، و انغمست في الثقافة السودانية، أترون كيف أكتب، هو ذلك ما أعني

هي حالة لا أستطيع فيها أن أستعير، أو أقتبس أو حتى أطير، كيف أصف؟ كيف أشرح؟ هي حالة رخوية؛ عضلة معقودة في محور الرخاء. لقد فات ديسمبر و لم أفهم. كيف أشرح؟ كان الرمل يتحرك على الطريق، يحرك الطريق. و أنا أفكر في الأغاني، إنتي و أنا من حقنا نفرح نطير زي الفراش لمكان بعيد ما زاره زول قبلنا، هكذا غنى هاشم ميرغني. وجوه كثيرة أراها للمرة الأولى و كلام كثير، لكن لا أدري إن كان شرحاً. هل يهتم هيكل المبنى القديم بوجوده بيننا؟ هل يقول شيئاً قبل هدمه؟ هل يحاول أن يبقى؟ المصور جاء معه سيدة أنيقة لاستخدام ذلك المبنى كخلفية من أجل إعلان تجاري، أو لمعرض للصور، معرض الصور هو مكان يحجزه المصور لكي يعلق فيه صوراً التقطها، و يزوره الناس لينظروا في هذه الصور، و إذا أعجبتهم زاوية أو  أو ضوء أو حدث تعكسه إحدى الصور اشتراها بثمن مكتوب في ورقة توزع عند الدخول

كما أن المطعم مبنى مليء بالطاولات و الكراسي، يذهب إليه الناس أو الزبائن لتناول الطعام مقابل مبلغ من المال، يقودك شخص إلى مكان يناسبك، يهتم صاحب هذه التجارة أن يوفر منظر جميل يحيط بالناس أثناء وجودهم. ربما بدأت فكرة المطعم لصعوبة بناء المطبخ، أو لمهارة الطباخ، قال لي والدي ذاك اليوم أنه لما زار القصيم كانت تنتشر رائحة الخبز وقت المغيب، لكن لا يوجد خباز واحد في القرية. الكل يخبز في بيته، أما سمر فقالت أن في جورجيا يستقبل أهلها السائحين في بيوتهم و يقدمون لهم الطعام مقابل المال. لا أذكر إذا قالت أن لديهم مطاعم أم لا لكن حتماً قليلة. الطاولات و الكراسي، ربما هم أناس أبطأ منا قليلاً

كان هنا مطعم، و كان بجانبه حلاق و جزار، كان صاحب المطعم مرحباً و الحلاق ثرثاراً، و الجزار متردداً متسائلاً، يخالني من مفتشي البلدية و الآن هي عمارة جديدة خالية من طوابق عديدة، لكن لا أحد يصرح بوجود العمارة الجديدة، الكل يقول: كان هناك مطعم. و ديار كانت قديماً دياراً سترانا كما نراها قفارا، هكذا قال جورج

لقد كلفتني مدرسة العلوم بنزع الأعشاب الضارة من حوض العصفر، "الضارة"، النباتات ثابتة لكن لها شوك و سم، مثل السور لكن قانون حمايتها يحميها من مجرد اللمس، و السور يحمي من محاولات العبور، كيف أشرح؟

حضور الوهم: استدراك

لقد كتبت يوماً هذه الكلمات في حالة غضب

عندما تعلمت أن القلم سلاح، بدأت به أزخرف الأنداد، ثم صار القلم يشهق روحي ليزفرها ريحاً عجيبة، فإما يكون قتالاً رائعا تتوهج به الدماء داخل الجسد، أو يكون الند محض نفّاخة؛ تحبس الهواء حتى تنفجر أو تذبل، و كلاهما موت. و إما ينفخها ناراً مقدسة، نورها أسطورة سماوية تبشر بدين التوحيد، أو تكون محرقة؛ تحترق بها الروح ليطير الند منطاداً

 و بعد أشهر من كتابتها، ربما بسبب الشمس (على قولة كامو) استدركت غضبي على نفسي حينها، و أسفت على تخيلي بأن في صب الغضب على الآخر طلاق من الغضب، فهو كما قلتُ  في الفقرة المقتبسة "بدأت أزخرف الأنداد" فعلاً زخرفت، أو تخيلت أولائك الأنداد، و استمرت علاقتي بهم تسهب في التوصيف و التحليل لأذكار في خيالي، و الذكر ما اعتدنا تذكره

هو أمر يرجعني إلى فكرة الند، عندما يصعب الصراع بين الإنسان و كل ما اكتسب، يتوهم شخصية، هي شخصية ممن حوله، لكنه يتوهمه حتى لو كان جالساً أمامه، لأن هذا الإيهام يرفي شقوق العجز جراء الصراعات، إن التوهم ليس هروباً من الواقع، فهو يكثف الحاضر، تتداعى له صروف الذاكرة لتلتصق بِشاشته

إن صورة إمداد الكتب للوهم تتجلى في شخصية كمال التي مثلها نور الشريف في فيلم قصر الشوق و في شخصية دون كيخوته التي كتب عنها ثربانتس. كلاهما مصدقان للكتاب، فنَصِف حياتيهما عادةً بالسذاجة، و لكني أراها صورة الوهم في الحاضر. كيف تكون الحياة مسرحاً كبيراً و في كل عقل مسرحية يبصر منها، و أحياناً يؤديها؟ لا أقصد طبعاً أن الحياة مسارح عدة، مللت من مسألة التعدد و التوحد، إنما الحين ما أقصد، الحين الذي سمى به دون كيخوته نفسه و خرج من بيته لابساً قلنسوة، الحين الذي قرر فيه كمال أن يُتم عذرية حبه، الحين الذي قال فيه السياب: مطر

   إذن ماذا يفعل الغضب؟ هل يجعلنا نركض مثل فوريست گمپ، أم ننتحر مثل بوعزيزي؟ هل هو نوع من الغضب أن أقدم للعمل بوظيفة حكومية في أحقر وزارات الدولة؟ ماذا أفعل؟ هو سؤالٌ  لا أطلب فيه حلاً إنما حيلة، الحلول لا تنفع، الحيلة أجمل فسلوكها بين سؤال و جواب، ها أنا أجيب الغضب بالحيلة، ما أضعفني، و ما أقدرني على الحياة

 إن القلم سلاح في نقد صادق، في جلاء فكرة، أو بداية إدراك، لكن القلم يصبح ريشة رقيقة عندما نتنفس أو نشك لا نستطيع به أن نهاجم. نعم، نغضب، لكن الغضب لن يغير أحداً، فهو يطير كالحمام ليرجع إلى برجه، التفاتاتنا هي التي تتغير، مشاهدنا تغير مراغبنا، تغيرنا، لذلك كان المحجوب و المكشوف

في عزلتي الموازية لأحداث العالم من حولي، خضت حروباً كثيرة في السنوات الثلاث الأخيرة، و عندما مر ربيع الثورات، مرت بي موجة الغضب، و للأسف فعلت مثل الثوار. ثرت على حاكم خارج كياني، أنا آسفة، و لكني غاضبة على نفسي التي لا تعرف الحرية، ما فائدة الحرية و العالم ينهار إلى الماضي أمام هذا الفضاء الافتراضي الذي نبنيه، أليست حياتي و أنا أتراسل بالبريد و أتحدث مع أصدقائي عبر الإنترنت أشبه بدون كيخوته الذي تشعر بعد الاستمرار في القراءة أنه مدرك لما يفعل و تنقلب صفة السذاجة عليك 

أجاهلة أنا إن لم أعرف الحرية؟ و لكنني أعرف أنني لا أعرفها. أهكذا تسير الأمور، مثلما الأمثال؟ هي الأمثال هكذا تماثل الأحداث حتى نطمئن. لكني لا أريد أن أغضب على غيري لكي أرتاح، و لا حتى أعرف لكي أرتاح، أريد فقط أن أفعل، فأنا كلما أقدم على فعل، يردني كتاب، في عزلتي أنا ما زلت أنتظر الحين؟ أما أنا للتو أعي من وهم عشته سنين جراء حين فات؟

عندما أبحث هكذا عن المعاني أرغب في تدليك جسمي

وين الجبلة؟

سؤال أسمعه دائما بصيغ مختلفة، فلقد سمعته مرة بصيغة "كيف نوجه بوصلتنا الإنسانية؟" أي مع من نتعاطف، أو "ما هو الاتجاه الصحيح؟" أو "إلى من ننتمي؟" و غالبا ما يسأل هذه الأسئلة من تعلم، أو اعتاد الالتزام. لماذا يكون هذا السؤال عالقاً في أغلب التجمعات الحوارية؟ كان هذا السؤال في ذهني إلى أن تذكرت حلاق المرقاب

فقبل بضعة سنوات و بينما كنت أصور في المرقاب خرج الحلاق من دكانه ليسألني إذا كانت هناك نية لتطوير المنطقة، فقلت له أني طالبة و أحضر لمشروع التخرج، فقال أن المدينة تحتاج إلى تطوير لأنها لم تعد واجهة جيدة لدولة الكويت، و مما قال أثناء استرساله أنه يعيش هو و أحد أصدقائه في شقة واحدة، فهو باكستاني لا يقبل أن يعيش مع عشرة أشخاص مثلما يعيش البنغلاديشي

إننا نعيش في منطقة تتكون بها جغرافيا سكانية مستمدة من تاريخ التركيب السياسي للدول المجاورة، و تقوم السياسة في الكويت منذ بداية سعي الشعب للديمُقراطية و سعي الأسرة الحاكمة لتحديد معايير التخطيط الحضري على أساس نسبة الكويتيين إلى غير الكويتيين، و لكن السعي للدولة الديمقراطية تزامن مع ظهور النفط و ازدياد أعداد المهاجرين إلى الكويت، حتى صار الكويتيون أقلية مع نهاية السبعينات و بداية الثمانينات

عندما ننظر إلى هذا النسق التاريخي -العام إلى أبعد حد- نكاد نجزم بأن سؤال "من هو الكويتي" ظهر من أجل المال العام. و سؤال "وين الجبلة؟" لا يريد إلا أن يحدد أكثر من هو الكويتي، ربما يحاول أن يضعه ضمن إطار أخلاقي، لكنه ما يزال يكرره

نحن نجتمع من أجل التواصل الفكري، لكن من نحن؟ نحن حاملو الجنسية الكويتية. أحياناً نرى في التجمعات الثقافية بعض الجنسيات العربية و بعض البدون، لكن العلاقة تظل محدودة بالرسمية بيننا و بين غير العرب، رغم تشكيلهم شريحة كبيرة من المجتمع و اعتمادنا عليهم بصفة دائمة. نحن لا نعلم عما إذا كانت هناك عقول هندية أو إيرانية نيرة بيننا، في سلك الإدارة أو العقار، و لا نتخيل إمكانية وجود كاتب باكستاني يعمل بيننا حلاقاً، أو سائق شاحنة بنغالي خريج علوم سياسية

إننا ننتقد التعليم في الكويت لكونه يحول النظرية إلى قطعية، و ننتقد في التدريس الديني أنه يحدد طريقاً محدداً للفوز برضى الخالق، فلماذا عندما نعارض هذا و ذاك نسأل عن الطريق و لا نصنعه، و لم لا نجتمع مع باقي شرائح المجتمع؟

نسمع دائماً عن مطالبات سياسية عن حقوق الجاليات، و حقوق البدون، لكن ما أراه أن المطالبات لحقوق الجاليات تأتي من داعي الشفقة، و حقوق البدون تأتي من البدون أنفسهم. و لكن لم تمر بين المجتمع الكويتي و غير الكويتي مرحلة تفاهم طبيعي حتى يتم رفعه إلى مطالبات رسمية، نحن ما زلنا لا نفهم من يعيش بيننا، لذا تكون عاطفة الشفقة نتيجة لا دافع للمعرفة في ما وراء الأمور

أتمنى أن تكون الصالونات الثقافية أكثر تنوعاً و ألا تقتصر على الكويتيين كبداية للتفاهم الفكري، فعندما يتسع الإدراك تتجلى بعض الحدود، و نتصور إلى أين نذهب



إهداء للقراء، اللي يعرف الأغنية عن شنو تتكلم أتمنى يشرح لي على شان ما أعتمد ترجمة عمي گوگل

عن الحب

قيس مهرج شفع له شعره، و روميو بعين شكسبير صار غزالاً. عندما يشتد في المرء حب، و هو ما ينتج تقليدياً -أو فطرياً- من حرمته، يقترن اسم ذكر بأنثى قرانا أسطورياً بقدر زيفه. فتخلدهما ذاكرة المعاصرين و أعقابهم معاً بينما يعيشان في واقعة فاتت تعيسان بعد دراما من الكبرياء و القرب و البعد. و هكذا يكون الخيال فكراً يعزي ما سبق باشتباه الحدوث، أو المعاودة المتغيرة

إن العزوف عن فعل الحب إلى التفكير أو التأمل فيه بشارة لارتقاء الإنسان، و لكن بعد حين يبدأ الإنسان يشخص أفكاره و يسميها، و يكاد يقارن فعل الحب معها. فالكمال إذن من صنع الإنسان، و يصف الإنسان حبيبه بالكمال. اقتران الإنسان بالمثال الفكري هو نسيج الأخلاق الذي يغزل من خيط مُتخيَل و آخر محسوس. نعم، هذا وصف مثالي لسير الأمور، و على حد ملاحظتي أن المثالية ليست رأياً عاما و لكنها نزعة إلى تعميم الرأي

تحويل المُثُل إلى أوصاف و أسماء لأشخاص عند العرب يدعو لدوام الشك في المعاني

و لا أقصد في العزوف عن فعل الحب اللافعل، فذلك كالفعل و قد يزيد تكلفاً عليه، إنما العزوف الكامل ما أقصد، بلا مقاومة لفعل، كالرهبنة و التصوف، و قد نستطيع القول أن أفعال الحب تعيش في فضاء من فكر الرهبنة و التصوف ما ابتعد الفكر عن الطقوس و الشعائر. أفعال الحب تعيش ثم تموت لكن الفكر يبقى و يخلد، و لذلك فنحن غالبا ما نرغب بآلة الزمن لاستعادة إحساس، لا لاستعادة فكرة

تصوير الحب، و لو كان في عين قيس و روميو لابد يظهر كالمهرج، لكنه مهرج كثيف بالصور -لا بالمشاعر- إلى حد لا يمكنه من مخاطبة أية حاسة من حواس الجسد، هو مخلوق للفكر و الذاكرة و الخيال، لأنه فعل لا يقترح مسايرة فكرية، فهو منفصل زمنياً عن الفكر و الذاكرة و الخيال، الفعل محفز لفكر مؤجل أو مقدم، قد يصدف و يلتقيان، مجاليهما متوازيين، و نتخيل جدليتهما

While reading Bergsonism by Gilles Deleuze.