DEEMA ALGHUNAIM

View Original

المصوّر ابراهيم

كنا نبحث عن استوديو تصوير في إحدى أزقة شارع فهد السالم، دخلنا عدة استوديوهات لنتفقد ما إذا كان مناسباً لما نريد حتى وصلنا استوديو الصحافة، دخلنا نبحث عن أحد، فجاءنا رجل عجوز من خارج المحل يلبس تي شيرت زرقاء و بنطال بني و قبعة بيضاء تشبه التي يلبسها عمال البحرية و سألنا عن مطلبنا، فاستأذناه أن نلقي نظرة على استوديو التصوير، فأخبرنا بأنه بالٍ و لا يصلح لشيء فطلبنا منه رؤيته رغم ذلك . تقدمَنا لينير لنا المكان و حذرنا من وجود عائلة قطط تعيش فيه

أنا لبناني
من وين من لبنان؟
من الجنوب

كان في الاستوديو قطة سوداء و عيالها الصغار، و عدة كراسي، و خلفية أشجار متدرجة ألوانها بين البرتقالي و النيلي، و ينزل من السقف قضيبان متحركان يحملان فلاشات قديمة، و مصفوفة هنا و هناك صور قديمة رائعة في براويز خشبية لحريق في الكويت و جنود. سألناه إن كان بالإمكان التصوير في هذا المكان فرد علينا بأنه لا يستطيع التصوير الآن لأن باله مشغول بإقامته فصاحب المحل الكويتي بدأ يفكر في استرجاع المحل، و كفيلته عجوز مريضة، و يصرف ديناران يومية التي تشتغل معه في المحل

سكت قليلاً، ثم استطرد يقول

أنتم لا تعلمون كم رأيتُ من البؤس، فقد وعيت على الدنيا بلا أم، سألت جدتي عنها فقالت أمك و أبوك تطلقوا. و عندها اتخذت وعداً بيني و بين نفسي ألا أتزوج. كانت خالتي -زوجة أبي- تشغلني في حمل الحطب و رمي الزبل مثل الخادم، و تعلمت حتى الثالثة الإبتدائي، ثم لم أعد أستطع جمع ما يكفي من أجل الكتب، و لكم كان الذهاب إلى المدرسة صعباً من البرد الذي يأتينا من جبل الشيخ. و عندما بلغت الخامسة و العشرين جاءتني أمي لتراني و أنا في ساحة العروبة -فلقد كنت ثورياً- أتتني تريد أن تراني، و لكني كنت قاسٍ معها

و صار يمثل أمامنا حواره معها و كيف قال لها آلآن تأتين بعد كل هذا الزمن؟! بعد خمس و عشرين سنة تذكرتِ أن لك ولد؟ و في الخامسة و العشرين أيضاً أحب فتاة، و لكن قال له أصحابه "يا ابراهيم، أنها تكلم شخصاً آخر"، فاختبأ عند المدرسة ليرى إن كان ما يقولون صحيحا، فصدق قول الناس عنها، و بعد فترة تزوجت، فكره حياته في بلاده، و أرهقه إلحاح جدته على الزواج، فعزم على الهجرة إلى أي مكان، فأشاروا إليه إن كان لا يفقه لغات الإفرنجة أن يذهب إلى الكويت و عبر سورية و منها إلى العراق ثم جنوبا إلى هنا بالسيارة عام ١٩٥٩ و هي ماتزال تراباً

بعد مجيئه بقليل، اتصلوا عليه من لبنان و قالوا له أن جدته صارت مشلولة، فرجع لها و عاتبته كثيراً على رحيله، و لكنه لم يستطع المكوث أكثر، فرجع إلى الكويت و لم يعُد ثانية إليها حتى ماتت. احترف التصوير في الكويت و اشتغل لدى جريدة الرأي العام فترة طويلة. و بدأت حبيبته ترسل إليه الرسائل من الجنوب، و أخبرته بعدم ارتياحها من زوجها و عن سوء حالتهم المادية و لذا صار يبعث لها جزءا مما يكسب

عندما يصلني منها مكتوب ياه كم كنت أفرح، كنت بروح عل البحر و ارمي حالي هيك بهدومي! كلما أتاني منها مكتوب.. ثم قالت في رسائلها أنها هاجرت إلى المملكة العربية السعودية و مازلت أبعث لها ما تيسر من نقود، حتى فتن بيننا نمام و جعلها تزعل مني، ولقد أتاني خبر وفاتها قبل شهر من اليوم -باكياً- ماتت و هي زعلانة علي

التفت بعد ذلك علينا و قال: كيف وجدتموني؟ من أين جئتم؟! إجيتوا و بكيتونا... أجبته بلا أدري فقد انتفت شروط الزمن و نحن نسمع قصته. "لا تعيدوها و تجوا هون" قال مداعباً "انتوا لقيتوني لأنكن دراويش، إنتن دراويش و أنا كمان درويش، تعرفوا شو يعني درويش؟".. ابتسمت ثم التفتُ على صديقتي أسألها إن كان يجب أن نذهب و لما رآنا نتشاور قال ضاحكاً: أخاف بتكونوا هربانين! أحيانا ينادوني شرطة الصالحية لأصور المقبوض عليهم

و بعد إطراقة، "إنتوا مجوزات؟" و لما أجبنا بالنفي قال سأدعو لكم فأنا دعوتي مجابة

لقد اشتغل عندي عاملان باكستانيان، و معروف عنهم أنهم يسرقون، و لهذا جربت امتحان أحدهما و بينت مكان المفتاح له لأرى ماذا سيفعل، ثم و في أثناء سفري، سرق آلات التصوير من علبها و هرب. و من بعدها و أنا أدعو عليه إلى أن مرض و اتصلت بي أمه تتوسل إلي ألا أدعو عليه، فدعوت أكثر، فأنا قاسي مع من يقسو عليّ حتى أمي لما رحت لها و هي على فراش الموت و سألتني إن كنت أحبها قلت لها حتى و إن متي أمامي لن تدمع لك عيني.. سكتنا، ثم انتبهنا إلى صغار القطط و هي تلعب و راقبناهم بابتسام حائر فقال: أنا قاسي لكن حنون؛ فلقد حاولت كثيراً أن أتخلص من عائلة القطط هذه، و ذهبت بهم إلى حديقة وهران لأتركهم هناك، لكنهم يرجعون إليّ فيعز عليّ تركهم

ثم يلتفت بفخر إلى صوره القديمة و يسألنا حلوين الصور ما هيك؟ الجنود و هم بيطفوا الحريق كأنهم حدادين و نجارين في مصنع كبير... يمكن هذي الصور هلّأ تتباع بـشي ٣٠ أو ٥٠ دينار، كنت مصور نمبر ون! كنت لما بصور المباريات للصفحة الرياضية كان يناديني الشيخ سعد -كنت أحبه الشيخ سعد- كان يناديني و يقول لي باللهجة اللبنانية وينَك؟ وين صوري جيبهم، فأجمع له صوره و أعطيه إياها

التفت علينا مرة أخرى يقنعنا بأن نأخذ عيال قطته لنخفف عليه -فلقد كان يحاول ذلك مذ أتينا- و لكن أخبرناه بأوان رحيلنا حيث أنه لم يرضَ أن نصور عنده -رغم إلحاحنا- لأنه مثلما قال آنفاً متضايق، هيك بدكن تروحوا من غير خسارة، لا شاي لا قهوة لا بارد؟ .. شكرناه و ذهبنا